هذه الحيوانات التي تحكمنا
قبل حوالي عشرين سنة صدر في فرنسا كتاب ساخر عنوانه «هذه الحيوانات التي تحكمنا»، خص فيه مؤلفه «رامبال» كثيرا من الزعماء السياسيين بالنقد اللاذع، حيث أنه اجتهد في البحث عن الأصل الحيواني لكل رئيس أو زعيم أو ملك. فرسم مثلا الملكة إليزابيث وأخضع ملامحها لريشته الساخرة إلى أن وصل بعد خمسة رسوم أو ستة إلى الحيوان الذي يجلس رابضا وراء ملامح الملكة. وأعتقد أنه وجدها في الأخير نعجة.
أتذكر أنني استمتعت بالكتاب حين قرأت عنه وشاهدت صوره في أحد أعداد مجلة «المستقبل» المنقرضة والتي كانت تصل من باريس أيام ازدهار الصحافة العربية بها على عهد فورة البيترودولار.
أتذكر مثلا أن الإمبراطور هيروهيتو بجلالة قدره وجدوا أن أصله نملة، وميناحين بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي هزم العرب في كل حروبهم التي خاضوها ضده وجدوا أن أصله سحلية، أما الراحل ياسر عرفات فقد عثروا له في وجه الجمل على شبيه بعد أن وضعوا فوق رأس الجمل المبتسم كوفية فلسطينية وعقالا. وحتى لا يتهم أحد مؤلفي الكتاب، الرسام والصحافي، بالعنصرية فإنهما افتتحا الكتاب بجاك شيراك ورسموه بأنفه الطويل إلى أن استقرت ريشة الرسام الشقي على رأس ديك منفوش الريش ومنقار بارز يشبه أنف شيراك البارز.
وبعد صدور الكتاب حقق أرقام مبيعات قياسية، ولا زال معروضا للبيع على الإنترنيت إلى اليوم. في كل الديمقراطيات الحقيقية يصف الصحافيون ورجال الإعلام والأكاديميون رجال السياسة الأقوياء بالحيوانات السياسية. وطبعا فلقب «الحيوان السياسي» لقب لا يطلق على أي كان. وكما أن هناك «حيوانات سياسية» فهناك أيضا «حشرات سياسية» تعيش حيثما كان العفن والماء العكر.
الرئيس الفرنسي ساركوزي مثلا حيوان سياسي مفترس، فهو يتربص بطرائده بحذر وصمت، وعندما يطبق فكيه على ضحيته فإنه لا يطلقها إلا وهي ميتة. ولعل المتتبع لمسار ساركوزي السياسي سيلاحظ أن الرجل طور عبر مساره السياسي برودة أعصاب لا يتحلى بها سوى محترفي القتل الرمزي والسياسي. وهو عندما ألح وتوسل إلى صحافي «باري ماتش» أن لا ينشر صور زوجته سيسيليا التي تركته وذهبت إلى نيويورك عند عشيقها اليهودي المغربي المولود بالدار البيضاء، كان يصنع ذلك لكي يوقف موجة عاتية ستجتاح حياته الخاصة وتقتحم عليه غرفة نومه. لكن الصحافي نشر صور سيسيليا وهي تتبادل الحديث مع عشيقها، بينما زوجها كان يقضم أصابعه من فرط العصبية في مقر وزارة الداخلية بباريس. وزير داخلية يضبط أمن ستين مليون فرنسي ويعجز عن ضبط زوجته.
لكن انتقام الحيوان السياسي كان سريعا، فقد قام بمساع «حميدة» عند إدارة المجلة انتهت بطرد الصحافي الذي نشر الصور. فساركوزي لديه علاقات صداقة متشعبة مع مالكي شركات الإعلام الفرنسية، وعلى رأسهم صديقه الثري لاكاردير الذي يوجد على رأس إمبراطورية إعلامية أخطبوطية.
ولعل مؤلف كتاب «هؤلاء الحيوانات التي تحكمنا» يفكر في البحث عن الأصل الحيواني لنيكولا ساركوزي فإنه لا محالة سيعثر له في الثعلب على شبيه. فالثعلب حيوان ذكي، وقمة ذكائه تتجلى عندما تسقط رجله في المصيدة. وعوض أن يترنح من الألم بانتظار وصول الصياد لكي يجهز عليه ويسلخ فروته، فإن الثعلب يقضم الرجل العالقة بين أنياب المصيدة إلى أن يقطعها بأسنانه ويتركها وراءه في المصيدة ويهرب بما تبقى من جسده. وهكذا صنع نيكولا ساركوزي عندما رأى أن زوجته سيسيليا هي قدمه الجريحة العالقة في المصيدة. ومنذ أن صار رئيسا للجمهورية وهو ينزف على صفحات كل المجلات والجرائد بلا توقف. لقد قال ذات لحظة ضعف لأحد الصحافيين بأن سيسيليا هي مصدر تخوفه الوحيد. وعندما اقتنع بأنه إذا استمر في تحمل النزيف والبقاء أسير المصيدة فإن مصيره سينتهي كحيوان سياسي، وسيأتي من يصوب نحوه رصاصة الرحمة لكي يجهز عليه سياسيا. لذلك تخلى عن قدمه في مصيدة الزواج وأفلت بجلده وبكرسي الرئاسة.
الحيوانات السياسية غالبا ما تكون مفترسة، تتشبه بالسباع والضباع والفهود. لكن هناك نوع آخر من الحيوانات السياسية تختار الدهاء والمكر والخديعة، ومثلها الأعلى هو الذئب والثعلب. لكن هناك حيوانات سياسية أخرى تختار نفاق التماسيح. وعندنا في المغرب محميات طبيعية واسعة حيث ترتع هذه التماسيح السياسية وتعيش. ومعروف عن التمساح أنه عندما يلتهم ضحيته، يبدأ في ذرف الدموع. ليس حزنا على ضحيته وإنما لأن عملية الهضم المعقدة التي يقوم بها الجهاز الهضمي للتمساح تتطلب ذلك، أي أنه يبكي لكي يهضم ضحيته بشكل أفضل.
وفي المغرب هناك وزراء يوقعون على قرارات سياسية ضد مصلحة المواطنين وفي الغد يقفون إلى جانب هؤلاء المواطنين لكي يبكوا معهم.
والأمثلة كثيرة ومتعددة، فهذا وزير الماء سابقا محمد اليازغي يوافق على تفويت مياه العين الوحيدة بقرية بنصميم، وفوق ذلك يرسل مبعوثا صحافيا عن الجريدة التي يديرها لكي يكتب تحقيقا عن مأساة سكان القرية المنكوبة.
وهذا وزير المالية الاتحادي السابق فتح الله والعلو يعطي موافقته لمديرية الضرائب لاقتطاع ضرائب جديدة من رواتب المتقاعدين، وفي الغد يكتب أحدهم في جريدة الاتحاد الاشتراكي مقالا افتتاحيا يبكي فيه على هذه الضريبة ويواسي المتقاعدين الذين تستهدفهم.
وهذا عباس الفاسي الوزير الأول يتعهد بتشغيل ملايين العاطلين عن العمل في تصريحه الحكومي، في الوقت الذي لازال ثلاثون ألف ضحية من ضحاياه ينتظرون فقط أن يرد إليهم دماءهم التي أعطوها للتحليل وتكاليف الملف الطبي الذي تقاضته المصحة منهم. أما الشغل فهم يعرفون أن عباس الذي وعدهم به ظل هو نفسه طيلة خمس سنوات في الحكومة بلا شغل. وفاقد الشيء لا يعطيه.
وبالإضافة إلى التماسيح السياسية هناك في المغرب «جراثيم» سياسية تتكاثر حول جرح متعفن يسمونه السياسة يعرف الجميع أن الحل المتبقي لعلاجه هو اقتلاع الورم عوض دهنه بالمسكنات.
وكما أن هناك حيوانات تعطينا دروسا في الانتهازية والمكر والخديعة، هناك حيوانات أخرى تعطينا دروسا عميقة في الحياة. وبالنسبة للسياسيين فالحيوان المثالي الذي يجب أن يتعلموا منه الدروس هو الفيل. فهذا الحيوان أولا لديه ذاكرة قوية، والذاكرة هي أهم جهاز يجب أن يحافظ عليه السياسي، لأنها تجنبه لعنة النسيان. حتى لا يخطئ المعركة ويخلط الجلاد بالضحية، ويضع رجله في المكان الخطأ ويده في يد الحليف الخطأ.
ثانيا عندما يشعر الفيل بقرب نهايته يجرجر أقدامه الثقيلة إلى مقبرة الفيلة ويجثو على ركبتيه بانتظار النهاية. فهو يجنب أشباهه رؤية العجز الذي يصل إليه حيوان ينحدر من آخر سلالة الحيوانات الضخمة.
ولعل رجال السياسة عندنا يحتاجون إلى تعلم أخلاق الفيلة، بحيث ينسحبون إلى الظل بمجرد ما يشعرون باقتراب نهايتهم السياسية.
المشكلة أن أغلب «الحيوانات السياسية» عندنا مولعة فقط بتقليد الضباع والتماسيح والثعالب والقردة، لكن القليل منها يبدو معجبا بنموذج الفيل. فهم يصرون على البقاء في «الحديقة» يتفرج عليهم العابرون، إلى أن يأتي من يطردهم منها أو يجهز عليهم بطعنة غادرة في الظهر.
ما أحوجنا في هذه الظروف السياسية العصيبة التي يجتازها المغرب إلى كتاب مثل «هذه الحيوانات التي تحكمنا»، حتى نتعرف على الوجوه الحقيقية الخفية لهذه الحيوانات السياسية التي تتنكر لنا كل يوم في صورة بني آدم.